وجئت يا رمضان تقول للأيدي صومي، صومي أيتها الأيدي التي سفكت الدماء وقتلت الأنفس البريئة، والتي هدمت المنازل على رؤوس الأبرياء، والتي قتلت الشيوخ والنساء، صومي أيتها الأيدي عن الضرب وعن القتل وعن السرقة وعن الاختلاس.. وصومي عن الرشوة، قبل أن يأتي يوم تغلين فيه بالأغلال، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.. يوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون.
جئت يا رمضان تقول للأرجل: صومي عن المشي إلى الحرام، عن المشي في طريق الضياع والندامة والضلال، عن الذهاب والإياب في مغضبة رب السماوات والأرض، عن تلك الطرق الذميمة الخسيسة الحقيرة.. صومي أيتها الأرجل..
ثم جئت يا رمضان تقول للبطون: صومي عن أكل الحرام، وعن أكل الربا، فإن جسداً غذي بالحرام فالنار أولى به.
صومي أيتها البطون عن أكل الحرام والغش والخداع قبل أن تلقي الله سبحانه وتعالى الذي يعلم السر وأخفى.
وفي الحديث عن
أبي هريرة ، رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي.
والصيام جنة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن قاتله أحد أو شاتمه فليقل: إني صائم، والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصيامه).
(1) * شرح الحديث:
فأما قوله سبحانه وتعالى: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)، فمعناه: أن الصيام سر بين العبد وبين الله، لا يدري أنك صائم إلا الله، ولا يعلم أنك صائم إلا الله، قد تأكل الطعام إذا اختفيت عن أعين الناس، ولكن يراك رب الناس، وقد تشرب الشراب إذا اختفيت عن أعين الناس، ولكن يراك رب الناس، فلذلك اختص الله بالصيام لنفسه فيقول: كل عمل ابن آدم له، أي: بيني وبينه، وبينه وبين الناس، فهو منشور معلوم.. إلا الصيام فإنه سر من الأسرار.. أكشفه له يوم يأتيني يوم القيامة، وأجازيه بفعله، فإن صدق معي عوضته من ذاك الظمأ إرواء من الحوض المورود، يوم يعطش الناس، ويظمأ الناس، ويفتر الناس، ويتعب الناس..
ومن جاع هنا أشبعته من ثمار الجنة، يوم يرد الجائعون عند الأبواب. فالصيام لله تعالى، وهو يجزي به، فجزاؤه أفضل الجزاء، وعطيته أفضل العطية وأهنأها وهو القائل سبحانه: ((
إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)).
وفي الصوم تجتمع أقسام الصبر الثلاثة فهنيئاً لمن صام رمضان ليرضي الله عز وجل فأدرك ذلك.
وأما قوله سبحانه وتعالى: (
يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي)، أي بمعنى يترك ذلك كله، طلباً لثوابي، وهروباً من عقابي، وامتثالاً لأمري وانتهاء عن نهيي، وطلباً لما عندي، فجزاؤه عندي المغفرة.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (
الصيام جنة) فمعناه: حفظ من المعاصي وردء من السيئات، وحجاب من النار، وجنة من غضب الجبار سبحانه وتعالى.
وأما قوله: (
فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم).
قال أهل العلم: يقول بلسانه: (إني صائم). فإذا صمت وأتاك رجل يريد مشاتمتك ومقاتلتك والمهاترة معك، فذكره الله، وقل له: (إني صائم)، بمعنى اتق الله في فإني صائم.. وخف الله في فإني صائم، لا تعتد على عرضي ولا على مالي، ولا تتسبب في اعتدائي عليك فإني صائم.
وقد ذهب فريق من أهل العلم إلى أن تقول بقلبك إني صائم فتجريها على قلبك، وكأنك تقول لنفسك: اتق الله في فإني صائم فلا تجرح صيامي.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (
فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب)، معنى لا يرفث: لا يتكلم بدواعي الجماع، ولا ما يوقظ الغريزة الجنسية أو الشهوة لأنه في عالم آخر، صامت روحه ونفسه وصام قلبه، فلا يثير نوازع الشيطان ومكامن الشر في نفسه.
(ولا يصخب)، أي: لا يرتفع صوته، وليحترم صيامه، ولا يماري، ولا يجادل، ولا يخاصم، ولكن ليحفظ الله سبحانه وتعالى في هذا الصوم.
قوله: (
ولخلوف فم أحدكم أطيب عند الله من ريح المسك)، لا مسك إلا خلوف الصائم، ولا طيب إلا طيب خلوف فم الصائم عند الله سبحانه وتعالى.. وما المسك عند خلوف فم الصائم؟
وما الطيب؟
بل خلوف فمه أحسن من المسك وأطيب من الطيب. لأنه صام في مرضاة الله، وجاع بطنه ليريد ما عند الله، وظمئت كبده لمرضاة الله.. فحيَّهلا بهذا الخلوف، ومرحباً به من خلوف، يفوح مسكاً عند الله يوم القيامة.
فيا من يريد أن يتعرف على الله في رمضان، إن رب رمضان، هو رب شوال ورب شعبان، فخف الله في رمضان وفي غير رمضان، فإنه رب كل زمان ومكان سبحانه وتعالى، واستبشر بالقبول، ورحب بهذا الشهر، وحاول أن تكون من المعتقين فيه، ومن المقبولين فيه، حاول ألا يخرج هذا الشهر إلا وقد أعتقك الله من النار، وقد أعتق رقبتك من غضبه سبحانه، فإن غضبه يحق المحق في الديار، وحاول ألا ينسلخ الشهر إلا وقد سجلك الله في سجل المقبولين، الذين كتب لهم الحسنى، فهم لا يسمعون حسيس جهنم وهم فيما اشتهت أنفسهم خالدون.
جع لتشبع عند الله، ولتدخل من باب الريان، يوم يفتح باب الريان من الجنة فلا يدخل إلا الصائمون، فإذا دخلوا أغلق عليهم، واظمأ لتشرب من الكوثر، من حوض محمد صلى الله عليه وسلم، يوم يقف يسقي العباد ومعه سبعون ألف ملك حول حوضه المورود، طوله شهر، وعرضه شهر، عدد آنيته عدد نجوم السماء، ماؤه أحلى من العسل، وأبرد من الثلج، وأبيض من اللبن، من شرب منه شربة لا يظمأ بعدها أيداً، نسأل الله من فضله. فحاول أن تكون من الشاربين الذين تركوا الشراب في الدنيا، وحاول أن تصوم كل جوارحك، كل الجوارح، الأذن التي كانت تستمع الغناء والخنا والفحش، حاول ألا تسمعه مرة ثانية، من هذا العهد، لأن من سمع غناء الدنيا حرمه الله من سماع غناء الآخرة في الجنة.